إسرائيل تصعّد في سلاح الردع بالاغتيالات
وضعت إسرائيل نصب عينيها أن الوصول إلى أهداف حيوية ورمزية، شخصيات وأماكن، سيؤكد تفوقها التقني وقدرتها على اختراق الإقليم.
حملت عملية اغتيال رئيس أركان حزب الله اللبناني فؤاد شكر بالضاحية الجنوبية في بيروت، وبعدها بساعات مصرع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، العديد من الرسائل العسكرية التي يمكن استشفافها من مسؤولية إسرائيل عنهما، وقبلهما الضربة التي وجهتها إلى ميناء الحديدة انتقاما من جماعة الحوثي، واغتيال قادة في الحرس الثوري الإيراني في دمشق، لكن من أبرز هذه الرسائل رغبتها العارمة في استرداد صورتها التي لا تقهر وسلاح الردع الذي تأثر بعد عملية طوفان الأقصى، وما تلاها من تداعيات بعد اندلاع الحرب على قطاع غزة.
رغم التفوق العسكري الكاسح لإسرائيل في المنطقة ومؤازرتها من جانب قوى غربية عدة، إلا أن اهتزاز مكانتها أمام جماعات وميليشيات مختلفة مثّل ضربة موجعة لها، حيث اعتمدت منذ عقود طويلة على امتلاكها آلة تستطيع بموجبها إلحاق ضرر بخصومها في المنطقة، وشيدت هذه السردية بمفردات متقنة، تعمدت تضخيمها بحديث عن امتلاكها سلاحا نوويا، تعلم قبل غيرها صعوبة استخدامه عسكريا ضد أي من دول المنطقة المجاورة، لكنه الردع الذي يمكنها من لجم القوى التي تعاديها.
أدت عمليات عسكرية متباينة انطلقت من جبهات متعددة، في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، إلى تحطيم غطرسة إسرائيل والنيل من تلك الدولة التي لا تقهر، حيث تسبب دخول أكثر من قوة مسلحة على خط الحرب على قطاع غزة في ظهور ثغرات في الجدار العسكري الذي شيدته على مدار سنوات ماضية، تعامل معه البعض على أنه خسارة إستراتيجية لها، وأن تفوقها الكبير حطمته جبهات استهدفتها بآليات متباينة، وحفاظا على دورها كذراع طولى للولايات المتحدة كان لزاما عليها استعادة سلاحها الردعي الإستراتيجي، لأن فقدانه سوف يؤثر على مهمتها في التصدي لجماعات متفرقة تناصبها العداء، وقد يتزايد عددها في المستقبل.
وضعت إسرائيل نصب عينيها أن الوصول إلى أهداف حيوية ورمزية، شخصيات وأماكن، سيؤكد تفوقها التقني وقدرتها على اختراق الإقليم؛ فالشخصيات المنتمية إلى حزب الله وإيران وحماس التي طالتها جميعها من كبار القيادات، ومعها حراسات مشددة، وتتنقل بحسابات دقيقة، لذلك فاستهدافها يعيد الاعتبار لفكرة الردع التي اعتقد البعض في اختلال موازينها مؤخرا، وأن إسرائيل خسرت أهم أسلحتها في المنطقة.
ويؤكد الوصول إلى أهداف محددة في بيروت وطهران ودمشق وغيرها أن التكنولوجيا التي تملكها إسرائيل عالية التقنية، وأن الموساد لديه عناصر على الأرض، داخل الجماعات والدول التي يستهدفها، ما يكشف هشاشتها البنيوية، ويظهر قدرة عالية على تجنيد العملاء، وخلق فتنة داخلية تستحق سلسلة طويلة من المراجعة.
يضيف اختيار الأهداف والوصول إليها بعدا مهما للآلة العسكرية الإسرائيلية، فالتقنيات التي تملكها وعززت كفاءتها وقدرتها على الاختراق يصعب نجاحها دون أجهزة قريبة من العناصر المستهدفة، وغالبيتها موضوعة على قوائم مطلوبة من قبل بعض القوى الدولية، ويكمن هذا البعد في السعي نحو استرداد الردع، فعمليات الهدم والتقتيل التي قامت بها إسرائيل في غزة، والاستهدافات المتنوعة لحزب الله في لبنان وجماعات أخرى في سوريا والعراق واليمن لم تفلح في استرداد هذا السلاح، لأنها تقوم على القوة الغاشمة، بينما الاغتيالات تحمل صفات نوعية كثيرة تدعم فكرة الردع.
أقرا أيضا| هنية ضحية للسنوار
لم نسمع عن قيام أيّ من القوى المناهضة باغتيال أحد قادة إسرائيل عبر عملية استخباراتية معقدة، حيث تفوقت الأخيرة وعملت على الاستثمار سياسيا في الاغتيالات، خاصة أن الأهداف التي تصل إليها وتنال منها تتوافر لها حماية غير تقليدية، وتحظى بترتيبات أمنية مركبة، ويعني نجاحها في استهدافها تفوقا بارعا، وهي رسالة إلى من ظلوا على قيد الحياة، تفيد بصعوبة تخفيهم أو ابتعادهم عن عين إسرائيل، التي أثبتت أنها ترصد وتتابع الكثير من الأمور الدقيقة في صفوف خصومها.
تأتي أهمية اللجوء إلى عمليات نوعية مثل الاغتيالات من صعوبة قيام الجماعات والحركات التي استهدف قادتها بالرد عليها بالطريقة نفسها، ما يوجد خللا في توازنات القوى يميل إلى صالح إسرائيل، التي تجنبت التعامل من خلال ضربات عسكرية مكثفة ضد الجبهات التي وضعتها هدفا لها، إذ تعلم أن القصف العشوائي عليها يقود إلى إزعاجات شعبية وسياسية، توحي بخلل في القوى بلا مضمون يؤيدها.
وقد امتصت إسرائيل الكثير من الضربات المعنوية الموجعة التي تعرضت لها من عناصر المقاومة بأشكالها وأماكنها المختلفة، لكنها ردت بأهداف مادية تؤكد تفوقها عليهم جميعا، لأن مجاراتها في سلاح الاغتيال غير ممكنة.
يبدو أن نجاح إسرائيل في التفوق التقني قد ساعدها، وسوف يساعدها مستقبلا، في إحراج قوى تجابهها وحاولت أن تثبت امتلاكها تكنولوجيا تمكنها من الوصول إلى مقاصدها، لكن عمليا ضلت غالبية ضرباتها الأهداف التي توجهت إليها، فكل الطائرات المسيرة والصواريخ التي أطلقت من لبنان وإيران والعراق وسوريا واليمن على إسرائيل أوقعت عددا قليلا من الضحايا، لا يتناسب مع الكم الكبير المستخدم فيها، حيث يستطيع صاروخ أو مسيرة واحدة الوصول إلى شخصية كبيرة أو أكثر في الهرم العسكري للجهات التي تقاتل إسرائيل، وأصبحت هذه الجهات في مأزق بين الرد والصمت.
يصب كلاهما في خانة دعم استرداد الردع من قبل تل أبيب؛ فالرد لن يتمكن من مجاراة إسرائيل بحكم الخلل التقني الذي يعمل لصالحها، حيث قال مسؤولون في الجبهات المشتبكة معها ما يشير إلى حكمة “العين بالعين”، أو شخصية بشخصية والبادئ أظلم، وهو ما لم يتحقق في الفترة الماضية، ويصعب تحقيقه في المستقبل، لأن إسرائيل توفر شبكة حماية محكمة لقادتها، على عكس القوى الأخرى.
كما أن الصمت يعني اعترافا بالعجز، ومنح إسرائيل صك شهادة بأنها اختارت أهدافها بعناية، بما يصب في خانة تعافيها تدريجيا من فقدان الردع الإقليمي، الذي دفع بعض الأطراف المتعاطفة مع المقاومة إلى الحكم بأن إسرائيل أصبحت عبئا على الولايات المتحدة والغرب عموما، وأن هناك قوى يمكن أن تحتل مكانها كشرطي في المنطقة، وزمانها قد ولى وانتهى، وربما تدخل في نفق من الانقسام المجتمعي بسبب الهوة بين الأجنحة التي تتكون منها الأحزاب، وتشتتها بين اليمين واليمين المتطرف واليسار.
لا يعني امتلاك إسرائيل أو غيرها التفوق التقني التمكن من تحقيق الانتصار في مجال أو أكثر، إذ تكمن القيمة المضافة في القدرة على التوظيف الجيد، فالتكنولوجيا متاحة للجميع، وتستطيع أي جهة الحصول عليها بسهولة، لكن الطريقة التي تستخدم بها والأهداف التي تصل إليها والمكاسب التي تحققها تتوقف على الزمان والمكان، وهو ما حدث في عمليات إسرائيل التي اخترقت “للأسف” عمق خصومها بلا كلفة باهظة.